الهدوء أصبح عملة نادرة في عالم يصرخ، وخصوصية لا تعرف أنها لك وحدك، وهاتف لا يصمت وضع نظريات آنشتاين عن النسبية والزمن جانبا، يطلق صيحاته التي لا تعرف معنى الصمت بتنبيهات تتوالى بسرعة 300 ألف كيلو متر في الثانية، وعندما تستيقظ من مساحة زمنية وحيدة التي أجازها لك يومك، أول ما نلمسه هو الهاتف بدلا من فنجان قهوة، أو نظرة في نافدة تستنشق منها رائحة الهدوء.
علينا أن نضع معادلة يراد منها تنظيم الصخب الذي فرضته الهواتف على حياتنا اليومية.. منذ متى أصبح أول ما نلمسه صباحا هو الهاتف لا كوب القهوة؟.. منذ متى صار الصمت بيننا محرجا فنغطيه بالتمرير في «فيسبوك»؟ بل متى توقفنا عن النظر في أعين بعضنا البعض، وأصبحنا نقيس الاهتمام بعدد الإعجابات لا دفء الكلمات؟.. نحمل هواتف ذكية بنفس الوقت نعيش في تشتت غبي، نتواصل عبر هذه التقنية مع كل العالم ولكن نشعر بالوحدة.
هل علينا إعادة صياغة هذه المعادلة، بأن تكون أقل اتصالا بالعالم الموازي، وأكثر اتصالا بذاتك والناس من حولك.. هل تستطيع فعل ذلك، دعنا نخرج من غرفة مزدحمة صاخبة إلى حديقة هادئة، كما يخرج السمين من صخب تناول كل ما يقف أمامه، إلى «الصيام المتقطع» الذي نحاول ممارسته بفشل، إلى «صيام رقمي».. كفكرة غريبة يعتبرها أكثركم «فكرة مجنونة»، نعم مجنونة.. هل تستطيع أن تترك هاتفك جانبا أو تغلق إشعاراتك لتغيب لفترة عن القصص والمنشورات وتنظر لإصبعك الذي تعب من ممارسة دمغ الإعجابات والتعليقات وتقليب الزمن بين صفحات «الريلز»، ?أنك أصبحت أسرع من الزمن بحسب النظريات الفيزيائية التي تقول إذا كانت سرعتك بسرعة الضوء أو تزيد تعود للماضي، فدعنا نعيد ذلك الزمن ونسبق مسار الزمن الحاضر لنعيش في زمن كنا فيه نعرف بعضنا البعض ونحفظ ألوان عيوننا.. دعنا نعيش في صمت انتخابي خال من صيحات المرشحين، لندرك فيها أننا لم نعد نعرف شكل السماء لفرط انحنائنا نحو الشاشة، ولنعرف وجه بعضنا دون فلاتر، ونشرب القهوة لا لأجل تصويرها بل لنستمتع بطعمها ونداعب وجهها الحقيقي.
"الصيام الرقمي» ليس ترفا فلسفيا بل ضرورة، وتجربة منتشرة في العديد من الدول، وهو ليس سهلا في ظل هذا الإدمان الرقمي، تماما مثل الإدمان على الكنافة والهريسة التي تتراكم على كروشنا فنركض وراء صيحات «الصيام المتقطع»، ولكن سوف تعاني من أعراض انسحاب.. ورغبة في تفقد الإشعارات.. وشعور بأنك تفوت شيئا، بل وقد تحس بأن العالم يستمر من دونك (وهي حقيقة قاسية!)، لكن ما إن تمر الساعات الأولى حتى يخف الضجيج الداخلي وتبدأ تسمع نفسك.
الصيام الرقمي (Digital Fasting) ممارسة تهدف إلى الانقطاع من استخدام الأجهزة الرقمية بهدف استعادة التوازن النفسي وزيادة التركيز وتحسين جودة العلاقات الاجتماعية والحياة اليومية، مستوحاة من مفهوم الصيام الغذائي، حيث يمتنع الإنسان عن الطعام لفترة معينة لتنظيف الجسم، فإن الصيام الرقمي تنظيف للعقل والانتباه من الإدمان الرقمي والانشغال المستمر بالتنبيهات والمحتوى الرقمي.
وأنا اعتبره ليس انقطاعا، بل عودة.. عودة لأحاديث تقال صوتا لا نصا، لكتب تقلب صفحاتها لا تنزل PDF، لأصدقاء نلتقيهم لا نراسلهم..قد لا تحل كل مشاكلك، لكنه بالتأكيد يذكرك أن الحياة الحقيقية... لا تحتاج إلى شاحن.